الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين:النجاة الأولى: من العذاب الجامع؛ الريح الصرصر؛ من الصيحة؛ من الطاغية، يقول سبحانه: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58].والنجاة الثانية: هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا.أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة.وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم.ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلًا بُضْع امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض، ولم يُملِّك الرجل النفعية المطلقة من المرأة التي يتزوجها؛ فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج.يقول الحق سبحانه: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ.ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}و{تلك} إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد؛ لأن الإشارة هنا لمؤنث، ولنتذكر أن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.وهكذا فصل بين {عاد} المكان، و{عاد} المكين، وهم قوم عاد؛ لذلك قال سبحانه: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] فهم قد ذهبوا وبقيت آثارهم.و{عاد} إما أن تطلق على المكان والمحل، وإما أن تطلق على الذوات التي عاشت في المكان، فإذا أشار سبحانه ب: {تِلْكَ} فهي إشارة إلى الديار، والديار لم تجحد بآيات الله؛ ولذلك جاء بعدها بقوله تعالى: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59].والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان.والآيات كما نعلم جمع آية، وهي الأمور العجيبة الملفتة للنظر التفاتًا يوحي بإيمان بما تنص عليه.ومن الآيات ما يدل على قمة العقيدة، وهو الإيمان بواجب الوجود؛ بالله الرب الخالق الحكيم القادر سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر، ورؤية الأرض خاشعة إلى آخر تلك الآيات التي في القمة.وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولًا من عند الله تعالى، وهي المعجزات.وآيات أخرى فيها الأحكام التي يريدها الله سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في خلقه.وقوم عاد جحدوا بكل هذه الآيات؛ جحدوا الإيمان، وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة، وأهملوا وتركوا منهج الله جحودًا بإعراض.لذلك يقول الحق سبحانه: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} [هود: 59].وهود عليه السلام هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد، فهل هو المعنيُّ بالعصيان هنا؟نقول: لا؛ لأن الله عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].إذن: فكل أمة من الأمم عندها بلاغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يُرسَل.ولذلك قال الحق سبحانه: {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285].فهم قد انقسموا إلى قسمين؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59].أي: أن هناك مُتَّبِعًا، ومُتَّبَعًا.والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع، سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا الجبابرة.ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفِرَق الضالة، فهو يتكلم أيضًا عن الفرق المضلة، فهناك ضالٌّ في ذاته، وهناك مُضِلٌّ لغيره.والمضل لغيره عليه وزران: وزر ضلالة في ذاته، ووزر إضلال غيره.أما الذين اتَّبعوا فلهم بعض العذر؛ لأنهم اتَّبعوا بالجبروت والقهر، لا بالإقناع والبينة.وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية، فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها ويقول: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79].ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً}والزمان بالنسبة للخلق ثلاثة أقسام: حياتهم زمن أول، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم الساعة زمن ثان وهو زمن البرزخ، وساعة يبعثون هي الزمن الثالث.والحياة الأولى فيها العمل، وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء، مجرد العرض، والحياة الثالثة هي الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار.يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].هذه هي الأزمنة الثلاثة حياة، وبرزخ، وبعث وكل وقت منها له ظرف.ويعبر القرآن عن هذا، فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه في البحر: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46].وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار».إذن: فهنا زمنان: زمن عرضهم على النار غدوًّا وعشيًّا، وزمن دخولهم النار.وهذا يثبت عذاب البرزخ؛ لأن الإنسان الكافر يرى فيه موقعه من النار، ويرى نصيبه من العذاب، ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب.وبالنسبة لقوم عاد، أذاقهم الله سبحانه العذاب في الدنيا، ثم يدخلهم النار يوم القيامة.ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60].وكلمة {ألا} هي أداة تنبيه كما قلنا من قبل تنبه السامع إلى أهمية ما يلقيه المتكلم حتى لا يجابه السامع بالكلام وهو غافل، ولأن المتكلم هو الذي يقود زمام الكلام، فيجب ألا يستقبله السامع غافلًا، فتأتي كلمة {ألا} كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلام.والكلام عن قوم عاد الذين نالوا عذابًا في الدنيا بالريح العقيم، ثم أتبعوا لعنة من البرزخ، وسوف يُستقبلون يوم القيامة باللعنات؛ فهذه لعنات ثلاث.وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرى قلب السامع من كثرة ما يقع عليهم من لعن، فبيَّن بكلمة {ألا} أي: تنبهوا إلى أن قوم عاد كفروا ربهم.وللجريمة زمن، وللعقوبة عليها زمن، وكفرهم بربهم حدث في الدنيا، وهو كفر في القمة؛ لذلك نالوا عقابًا في الدنيا.والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة، فلا تأخذكم بهم الرحمة الحمقاء، لأن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ، ثم تأتي لهم لعنة الآخرة.وهم لم يكفروا بنعمة ربهم، بل كفروا بربهم.والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف، وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق نعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل.وقد أوضح لهم هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].أي: أن الحق سبحانه عادل.وأنت حين تسمع جريمتهم؛ تنفعل وتطلب أقصى العقاب لهم؛ ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60].فأنت لا تكتفي بلعنتهم الأولى، بل تلعنهم مرة أخرى.ولسائل أن يقول: ولماذا يقول الحق سبحانه هنا: {أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60].ونقول: لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى} [النجم: 50].وهذا يوضح لنا أن {عادًا} كانت اثنتين: عادًا الأولى، وهم قوم عاشوا وضَلُّوا فأهلكهم الله، وهناك عاد الثانية. اهـ.
{وَأُتْبِعُواْ} ألحقوا وأردفوا: {فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} يعني بعدًا وعذابًا وهلاكًا: {وَيَوْمَ القيامة} أي وفي يوم القيامة أيضًا كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة: {ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي بربهم، كما يقال: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى: كفروا نعمة ربهم.{أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} البُعد بعدان: أحدهما البُعد ضد القرب، يقال: بعد يبعد بُعدًا، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه: بَعد يَبعد بَعدًا وبُعْدًا. اهـ.
|